روب مذنب أم بريء؟

خالد اليماني

بعد أشهر من إثارتها للمرة الأولى عادت النقاشات في وسائل الإعلام الأميركية أخيراً حول قضية روبرت مالي، الذي كان يشغل منصب مسؤول ملف إيران في الإدارة الأميركية. خصوصاً عندما نشر الصحافي جاي سولومون في صحيفة إيران إنترناشيونال اللندنية ما قيل إنه القبض على شبكة تجسس إيرانية رفيعة المستوى في العاصمة الأميركية واشنطن. ولأهمية القضية ضمن اهتماماتي البحثية الدبلوماسية، وأصدائها بالنسبة إلى المشتغلين في المجال، سيبحث مقال هذا الأسبوع في الموضوع في محاولة لمعرفة ماذا يجري؟

مع نهاية شهر يونيو (حزيران) الماضي، خرج الإعلام الأميركي بأنباء تفيد بإيقاف مالي، وهو أحد أبرز اللاعبين في تشكيل منطلقات السياسة الخارجية للحزب الديمقراطي، ويعزى إليه كثير من الآراء المعروفة التي جلبتها إدارة الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض حول الشرق الأوسط، كما أنه كان مسؤولاً أيضاً عن الملف الإيراني إبان إدارة الرئيس الأسبق أوباما. اليوم بعد مرور أربعة أشهر منذ توقيف مالي يبقى السؤال مطروحاً، ما الذي كان مالي متورطاً فيه بالضبط؟ مما أدى إلى مباشرة مكتب الأمن الدبلوماسي بوزارة الخارجية الأميركية التحقيق، بالتالي استدعى فتح مكتب التحقيقات الفيدرالية تحقيقاً في الموضوع؟

بحسب التقارير التي نشرت في الصحافة الإيرانية المسيطر عليها من الحرس الثوري وعتاة المتشددين بنظام الملالي في طهران، فإن جزءاً كبيراً من مسؤوليات مالي كانت تكمن في نشر المعلومات بين أوساط الشتات الإيراني في أميركا التي كانت في النهاية تصل إلى طهران. والغريب في الأمر أن أول التقارير المتعلقة بإيقاف مالي والوثائق الرسمية المتصلة به نشرت في إعلام نظام خامنئي.

سبب تعليق مهمة مالي، بحسب وزارة الخارجية الأميركية وبمذكرة رسمية صادرة في الـ21 من أبريل (نيسان) الماضي سربت إلى صحيفة “طهران تايمز” الإيرانية، وأكدت بعض المصادر الأميركية صدقيتها، هو تعليق تصريح مالي السري للغاية بسبب “مخاوف أمنية خطرة” تتصل بـ”سلوكه الشخصي” وتعامله مع “المعلومات المحمية” و”استخدام تكنولوجيا المعلوماتية”، ونفى مالي حينها ارتكاب أية مخالفات، ورفض التعليق على أخبار قرار الوزارة.

فليأخذ التحقيق مجراه

روبرت ابن الأسرة اليسارية المناصرة لقضايا التحرر في أفريقيا، من أم أميركية عملت في بعثة جبهة التحرير الوطني الجزائرية في نيويورك، وأب صحافي من أصول سورية ومصرية، وعمل مراسلاً لصحيفة “الجمهورية” المصرية في الأمم المتحدة متخصصاً في حركات التحرر بأفريقيا، لينتقل لاحقاً إلى باريس لتأسيس مجلة اليسار المعروفة “أفريقيا آسيا”، انتقل في صباه إلى باريس وبعد أن طردت الحكومة الفرنسية أباه من فرنسا لمواقفه اليسارية المتشددة، عاد لنيويورك ودرس في أبرز الجامعات الأميركية مثل ييل وهارفرد.

اشتغل مالي في مختلف الإدارات الديمقراطية بدءاً من إدارة كلينتون ليرتقي إلى منصب المساعد الخاص للرئيس للشؤون العربية والإسرائيلية، كما عمل في الحملة الانتخابية وفي إدارة الرئيس أوباما، وكان مسؤولاً عن التوصل إلى الاتفاق النووي مع طهران في 2015، وخلال الإدارة الحالية أعاده الرئيس بايدن للملف الإيراني حتى تاريخ تعليق مهمته.

في الحقيقة لعب روبرت مالي دوراً كبيراً للتأثير في الإدارات الديمقراطية ومقارباتها تجاه إيران بالتعاون مع اللوبي الإيراني الناشط في أميركا، وربما يكون هذا هو السبب الذي أدخله مرحلة الفحص القانوني الجارية حالياً. وبعد أشهر من سكوت الإدارة وعدم ظهور نتائج التحقيقات التي تجريها الأجهزة المتخصصة، ومع إصرار مالي بعدم ارتكاب أي خطأ، يبقى الأمر معلقاً، فيما تتزايد التكهنات والأقاويل.

ونظراً إلى مكانة الرجل في الإدارة الديمقراطية، وعلاقاته الواسعة بالرؤساء الديمقراطيين السابقين والحالي، كتب جوش روغن مقالة رأي في الـ”واشنطن بوست” في بداية سبتمبر (أيلول) الماضي بعنوان “داخل ملحمة مبعوث إيران لوزارة الخارجية”، يقول فيه “لنكن واضحين فليس ثمة أية أدلة أن مالي اقترف أي خطأ، فهو حتى اللحظة لم يتهم بأي شيء، بالتالي فهو بريء، لكن ما أثار غضب المشرعين، ليس الحديث عن جريمة مزعومة، بل الأدلة المتزايدة على التستر، فالجدول الزمني للأحداث يظهر نمطاً من التشويش”، مضيفاً في نهاية مقالة الرأي أن “مالي يستحق إجراءات عادلة، فسلطة القانون هي ما يميز النظام الديمقراطي الأميركي عن سواه من الأنظمة الاستبدادية، إضافة إلى الأمانة والشفافية في الحكم”.

تتأخر التحقيقات وتزداد التهم

في بداية أكتوبر الجاري نشر كثير من المواقع الإعلامية الأميركية من وحي ما كتبه الإعلامي جاي سولومون في صحيفة “إيران إنترناشيونال” اللندنية، وهي منصة مهمة للمعارضة الإيرانية أكدت الكشف عن مجموعة من رسائل البريد الإلكتروني الرسمية للحكومة الإيرانية التي قرصنت، وما تلاها من القبض على “شبكة تجسس” إيرانية رفيعة المستوى في واشنطن، متهماً روب مالي بتمويل ودعم وتوجيه عملية استخبارية لصالح إيران للتأثير في صناع القرار في أميركا والدول الغربية الحليفة. ورفض مصدر مخول في الخارجية الأميركية توصيف الأمر بـ”شبكة تجسس”، ولم يعلق على علاقة الأمر بروب مالي من حيث إن الموضوع قيد التحقيق.

 تتهم المقالات ومن بينها ذلك المنشور في مجلة “دا تابلت” النيويوركية بقلم لي سميث، مالي بالمساعدة على تسلل عميلة إيرانية تدعى آريان طباطبائي إلى بعض أكثر المناصب حساسية في الحكومة الأميركية في وزارتي الخارجية والدفاع. وتظهر الرسائل أن طباطبائي عملت ضمن فريق تحت مسمى “مبادرة الخبراء الإيرانيين” الذي أنشأه جهاز الاستخبارات في وزارة الخارجية الإيرانية من بين إيرانيي الشتات للدفاع عن مصالح إيران. واجتمع الفريق بإشراف الخارجية الإيرانية في عديد من الدول الغربية، وتلقى تعليمات من كبار مسؤولي نظام الملالي، معربين عن ولائهم المطلق والشخصي لنظام خامنئي.

وفي المراسلات الإلكترونية ذكر عديد من إيرانيي الشتات، فإضافة إلى آريان طباطبائي ذكر علي فائز ودينا اسفندياري وكلهم عملوا بشكل لصيق مع مالي. وفيما يواصل الجمهوريون الضغط على الإدارة لإلزام مالي وطباطبائي بالمثول أمام جلسة استجواب في الكونغرس باعتبارهما موظفين رفيعين في الحكومة الأميركية، يتواصل انتظار إجلاء الأمر قانونياً من مكتب التحقيقات الفيدرالية.

رد إيراني متبجح

بعد أسبوع من نشر تقرير صحيفة “إيران إنترناشيونال” علقت الخارجية الإيرانية على شبكة “مبادرة الخبراء الإيرانيين” بقولها إنها جزء من السياسة الداخلية الأميركية، وإنهم في إيران لا يتدخلون في صراعات الأحزاب السياسية في أميركا. وكتب عديد من الصحف الإيرانية المحسوبة على المتشددين والحرس الثوري، مقرة بأن الشبكة المخترقة هي جزء من “الحرب الناعمة” للجمهورية الإسلامية.

ويعترف النظام الإيراني بـ”سر معلن” حول قوة تأثير ونفوذ اللوبي الإيراني في أميركا الذي يعمل منذ سنوات طويلة، ويعتقد أنه حقق نصراً كبيراً ضد أميركا من داخلها، باعتبارها رافده لجهوده التي تتواصل على مدار الساعة في المنطقة لهزيمة الوجود الأميركي عبر ميليشياتها، لإخراج القوات الأميركية الموجودة في العراق وسوريا والخليج، حتى يفسح لها المجال لبناء إمبراطوريتها الإرهابية في المنطقة.

وبانتظار ما ستفضي إليه التحقيقات الجارية يبقى السؤال الكبير الذي يلوح في أفق السياسة في واشنطن، هل روبرت مالي مذنب أم بريء؟ وهل لوبي خامنئي في أميركا على هذا القدر من النفوذ؟

قد يعجبك ايضا